فورَان دَاخليّ عرفته شخصيّة المغربيّة نعيمة دودَاغ وجعلها تحوّل مسارها من مهاجرَة في وضعيّة غير نظاميّة بإيطاليا إلى منتخبَة بمجلس التدبير المحلّي مدينَة برِيتشيَا، ورافقت كلّ ذلك تطوّرات مفصليّة على المستوَيَين المهنيّ والجمعويّ المواكبَين لعيشها.. مفلحة في البصم، اليوم، على نهج سيرة نجح في تحدِّي غالبيّة العثرات التي حاولت النيل منها.
طيلَة السنوات الـ25 المنصرمة، وبعيشة موزّعة ما بين جنوب إيطاليا وشمالهَا، عملت نعيمَة على إفراد نفسهَا لخدمة مصالح أسرتها المتعدّدة الأفراد قبل أن تعمّم تجربتَها على المحتاجين لها من أفراد الجاليّة المغربيّة، كما المغاربيَّة، ابتغاء لتحقيق عيش أفضل وسط بيئة تختلف عمَّا هو متوفر بالضفة الجنوبيّة من الحوض المتوسّطيّ.
حَرَّاكُة..
حطّت الطائرَة التي تقلّ نعيمَة دُودَاغ فوق التراب الإيطاليّ بداية تسعينيات القرن المَاضِي، وذلك بسريَان مدَّة تأشيرة مخصَّصة لزيارة الأصول.. غير أنّ الشابَّة التي بقيت بالمغرب حتَّى نيلها للباكلوريا، والمتنقّلة لعيادَة الأبوين والإخوة، طال مقامُهَا بسردِينيَا لـ5 سنوات كـ”حرَّاكَة” بعد أن اختارت البقاء جوار أسرتها خارج الضوابط القانونيَّة.
اشتغلت نعيمَة كمساعدة لوالدها ضمن النشاط التجاريّ الذي يمتهنه بهدف سدّ حاجيات أسرة من 10 أفراد.. ولم تسوِّ وضعيتها القانونيَّة كمقيمَة بإيطاليا إلاَّ عند فتح الباب لهذا الغرض عام 1995، مستغلّة مرور الأعوام في تعلّم اللغة الإيطاليَّة والتعرف على بنية المجتمع بالمنطقة التي حلَّت ضيفة عليها قبل أن تقرّر الاستقرار بها.
فرحت دودَاغ وهي تنال بطاقة الإقامَة فوق التراب الإيطاليّ، كما كانت فرحتها أكبر وهي تحصل على رخصة سياقَة تثبت بها ذاتها وسط بيئتها الجديدَة، كما أغبطها فلاح إخوتها في مراكمة النجاحات الدراسيّة عاما تلو الآخر.. لكنّها حزنت وهي ترَى الأزمة التي ضربت الجنوب الإسبانيّ تجبرها، وأقاربها، على التنقل صوب شمال بلد الاستقبال ابتغاء لمستقبل أفضل بعيدا عن الحيز الجغرافي الذي ألفته.
“وجَدتُنِي، بعد الأزمة الخانقة، أستقرّ بمعيّة أسرتي في جهة لُومبَارديَا.. وقد اشتغلت وسط هذا الوضع كنادلة في مطعم.. لكنّ هذه الظروف لم تكن تحمل صوبي إلاّ مجموعة تجارب مكّنتني من النضج.. كما أنّ تضحياتي من أجل إخوتِي، ضمانا لاستمرارهم في الدراسَة، استمرّت بفعل التزام أخلاقي يجعلنِي أبقَى مساعدة لهم حتَّى تحقيق طموحاتهم” تقول نعيمة ضمن تصريحها لهسبريس.
وسَاطَة اجتماعيَّة
أسهم انتقال نعيمة دُودَاغ للاشتغال ضمن شركة إيطاليَّة، لها معاملات مع دول عربيَّة، في تطوير تواصلها باللغة التي سبق أن درست بها وكانت بصدد فقد مهارات استعمالها.. ما أحيَى بداخل ذات المغربيَّة الرغبة في العودة للتحصيل ابتغاء لمستقبل أفضل.
وعن هذه التجربة تورد نعيمَة: “وسط عملي الجديد تعرّفت على محلّلة نفسيَّة تشتغل لصالح نفس الشركة، وقد اقترحت عليّ مساعدتها ضمن أدائها بجمعيّة لبحوث علم النفس كوسيطة ثقافية ولغويّة واجتماعيَّة، حيث جاء ذلك بعدما شرعت نفس الصديقة في تفعيل دراسات تروم التواصل مع مهاجرين ويبتغي نتائجها مختصون في المجال.. هذا ما دفعني لتغيير مساري صوب مجال أتاح لي فرصا كبيرا لدرجة تغييره كل حياتي.. إذ خضعت لتكوينات على أيدي مختصين غالبيتهم بعلم النفس، واستمرّ ذلك لعامين اثنين”.
وراكمت دودَاغ، بالموازاة مع ذلك، تحركات ميدانية بمعيّة محللين نفسيّين وأطباء متخصصين في تقويم النطق وآخرين مشتغلين ضمن مجال الحركَة وأطباء أطفال.. كما شاركت ضمن دراسات ثقافيّة تروم الإحاطة بسبل التواصل وإتقان التعرف على العادات والتقاليد، وتشخيص الأزمات النفسيّة.
اشتغال صحيّ ـ جمعويّ
تتواجد نعيمَة حاليا وسط قسمَي الولادَة وأعصاب الأطفال وسط مشفَى برِيتشيَا، وذلك كموظّفة مشتغلة بالوساطة اللغويَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة المواكبة لتدخلات الأطباء النفسانيّين.. كما تسهر على مواكبة الاشتغالات على البحوث الميدانية التي تهمّ العائلات المهاجرة المهدّدة بفقدان أبنائهَا من أجل التعرف على المشاكل التي تطال بنيتَها، هادفة إلى تشخيص ما يعيق تحقيقها للتعايش والاندماج.. وتختصّ نعيمَة دُودَاغ أيضا، وسط المرفق الصحي الذي تعمل به، بالتعاطي مع النساء المهاجرات المتعرضات لاكتئابات نفسيَّة وتحتجن الاهتمام بهنّ.
وتقول دُودَاغ عن عملها الحاليّ: “من خلال التواجد بقسم الولادة رصدت أن العديد من النساء يتعرضن للعنف، وهذه محطّة تساعد في تقديم الدعم النفسي والصحي الذي يحتجن إليه”، وتضيف: “كانت لي تجربة بتوجيه معنفات صوب جمعيات مغربيّة أو تونسيّة، حسب انحدارهنّ، لكنِّي رأيت أن التدخل الإرشادي المصاحب يغيب عن التعاطي، لذلك عملت، قبل 4 سنين، على إنشاء جمعية متخصصة بهذه الحالات التي تعني الأمهات وأبناءهم.. ووكب ذلك بدعوة متدخلين إيطاليين ومغاربة للإحاطة بالملف، من بينهم القاضي الملكف داخل وزارة الجالية المغربية الذي يواكبنا، زيادة على محاميات ببريتشيا تحال عليهن الملفات، كما تمّ خلق تعاون في إطار شبكة تضم عدة مختصين”.
بلديّة بريتشيَا
أفلحت نعيمَة دُودَاغ، ضمن الانتخابات المحلّيّة الإيطاليَّة التي تمّ تنظيمها سنة 2011، من أن تنتخب عضوا ببلديّة بريتشيا عن لائحة مدنيّة تقدّمت ضمنها، كما أنّها، منذ منتصف سنة 2013، تنتمِي إلى “مجلس الكفاءات والفرص”، وهي لجنة مشكّلة من أعضاء مجلس التدبير المحليّ.
والانشغالات البلديّة لدُوداغ، التي استهلّت تواجدها فوق التراب الإيطالي كمهاجرة غير نظاميَّة، لا تمنعها من تطوير أدائها الجمعويّ.. ذلك أنّها شاركت قناة سويسريّة، قبل عامين، في الاشتغال على ظاهرة زواج القاصرات وسط المهاجرين لإيطاليا، ومن بينهم المغاربة، حيث تمّ عرض المنتوج بأكثر من موعد دوليّ من بيهم مهرجان اكادير للسينما والهجرة.
“أنا راضية للغاية عن مساري، خاصّة أن تطوير مستواي جعلني أقوم بأدوار لا أعتبرها سهلة ولا ثانويَّة.. ولا يمكنني التخلي أبدا عمّا أقوم به، فأنا أعي تماما قيمة المعلومات التي يتم تقديمها للأسر المهاجرة وأثرها في مساعدتها على العيش بسلام وسط المجتمع الإيطاليّ بعد تخطّي الصعوبات المصادفة.. وما يحفّزني هو الشكر والدعاء الذي أحضى به من لدن من أمدّ لهم يد المساعدة.. فقد كنت احلم، في صغري، بأن اغدو صحفيّة.. لكنّ ما أقوم به الآن يشعرني بذات الراحة التي كنت أبتغيها، حتّى وإن رجع بي الزمن لما اخترت غير هذا المسار”.
عصارة تجربة
ترَى نعيمَة دُودَاغ أن المغرب في سنة 2015 لم يعد يشبه نظيره لسنوات لثمانينيات، وتقول: “الفرص متاحة الآن لنيل فرص عمل، خاصة وإيطاليون يهاجرون لبلدنا ويحققون ذواتهم.. لذلك أنصح المغاربة بعدم اللجوء اختياريا إلى الهجرة مع إمكانية عيش التجربة في فترات ما”.
“كنت أتمنَّى أن أكون بالمغرب حاليا، فالوطن محتاج لكل تجارب وكفاءات أبنائه، خاصّة إذا توفرت لهم القدرات المالية والدراسيّة التي تمكّنهم من تحقيق ما يريدون داخل مجتمعهم الأصليّ، فالهجرة تزداد صعوبات وتعقيداتها في تنامٍ مستمرّ.. وبخصوص إيطاليا تحديدا لا يمكن للبلد أن يقدم فرصا لتحقيق أهداف المهاجرين، والمثال يمكن أن يضرب بأناس قدموا منذ مدة ولم يحققوا شيئا داخل بلد الاستقبال”.