كشف إعلان 27 دولة أوروبية دعمها لمراجعة الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان عن انقسام عميق داخل القارة بشأن قضايا الهجرة والأمن والسيادة، هذا الانقسام يمتد تأثيره إلى دول الجوار، وفي مقدمتها المغرب، الذي يعد شريكا محوريا للاتحاد الأوروبي في ملفات الهجرة والأمن والتعاون الحدودي. وتعتبر الدول الداعمة أن بعض تفسيرات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أصبحت تعيق قدرتها على إدارة الهجرة وحماية الأمن القومي، جاء هذا الموقف في إعلان مشترك صدر في 10 دجنبر 2025.
تصاعد الجدل الأوروبي
فبينما ترى دول موقعة أن قواعد حقوق الإنسان بصيغتها الحالية تعرقل ضبط الحدود وترحيل المهاجرين المدانين، ترفض دول أوروبية وازنة، مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا، هذا التوجه، معتبرة أنه يهدد أحد أعمدة المشروع الأوروبي، ما يعكس انقساما واضحا داخل القارة الأوروبية.
شملت قائمة الدول الموقعة على الإعلان كلا من الدنمارك، وإيطاليا، وألبانيا، والنمسا، وبلجيكا، وبلغاريا، وكرواتيا، وجمهورية التشيك، وإستونيا، وفنلندا، والمجر، وأيسلندا، وأيرلندا، ولاتفيا، وليتوانيا، ومالطا، والجبل الأسود، وهولندا، والنرويج، وبولندا، ورومانيا، وسان مارينو، وصربيا، وسلوفاكيا، والسويد، وأوكرانيا، والمملكة المتحدة. في المقابل، امتنعت دول مؤثرة مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا عن التوقيع.
قواعد صارمة لمن يرتكبون الجرائم
هذا التحرك ليس جديدا، إذ سبقته رسالة وقعتها تسع دول في ماي الماضي، أكدت فيها أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تحد من قدرتها على ممارسة سيادتها الوطنية، خصوصا فيما يتعلق بطرد المهاجرين المدانين بارتكاب جرائم خطيرة. وترى الدول الموقعة أن الواقع الأمني والهجروي في أوروبا تغير بشكل كبير منذ صياغة الاتفاقية عقب الحرب العالمية الثانية.
وجاء في نص الإعلان أن “حقوق وحريات المواطنين مهددة من قبل أشخاص يستغلون كرم الضيافة لارتكاب جرائم خطيرة، إضافة إلى شبكات الاتجار بالبشر واستغلال المهاجرين”. وتؤكد الدول المعنية التزامها بالقانون الدولي، لكنها تطالب بهامش أوسع للتحرك في قضايا الترحيل وضبط الحدود.
الدول الداعية إلى مراجعة الاتفاقية تمثل في معظمها دول “الضغط الأمامي” أو دول العبور والاستقبال غير النهائي، وتواجه تصاعدا في الخطاب الشعبوي والقلق الأمني. في المقابل، تخشى الدول الرافضة أن يؤدي فتح باب تعديل الاتفاقية إلى إضعاف منظومة حقوق الإنسان، وتحويلها إلى أداة سياسية مرتبطة بتقلبات المزاج الانتخابي.
انعكاسات الإعلان على المغرب
بالنسبة للمغرب، يأتي هذا الجدل في لحظة حساسة، إذ يعد شريكا أساسيا في سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية للهجرة، ويتحمل منذ سنوات عبئا متزايدا في مراقبة الحدود، ومحاربة شبكات الاتجار بالبشر، ومنع الهجرة غير النظامية نحو الضفة الشمالية للمتوسط.
ويخشى مراقبون أن يؤدي تشدد بعض الدول الأوروبية إلى زيادة الضغط على المغرب ليقوم بدور “الحارس المتقدم” للحدود الأوروبية، مع مطالب أكبر بالمنع والإرجاع، مقابل دعم سياسي ومالي غير مضمون أو مشروط. كما قد تتوسع محاولات إعادة توجيه المهاجرين المرفوضين نحو دول العبور، ما يضع المغرب أمام تحديات اجتماعية وإنسانية إضافية.
في المقابل، قد يتيح الانقسام الأوروبي هامش مناورة دبلوماسيا للمغرب. فغياب موقف أوروبي موحد يمنح إمكانية التفاوض الثنائي مع الدول الأكثر حاجة للتعاون الأمني والهجروي، مع التمسك بمقاربته القائمة على المسؤولية المشتركة واحترام الكرامة الإنسانية، كما تنص على ذلك السياسة الوطنية للهجرة واللجوء.
كما أن تمسك دول أوروبية مؤثرة بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان يعزز الموقف المغربي الرافض لأي حلول أمنية صِرفة، ويقوي حجته في ضرورة معالجة جذور الهجرة، بدل اختزالها في المقاربة الردعية.
اتجاهات الهجرة المغربية: الواقع أقوى من الخطاب
على الأرض، تميل الهجرة المغربية إلى الدول الداعمة لتعديل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان أكثر من تلك الرافضة. إذ ترتكز الوجهات الفعلية للمهاجرين على إيطاليا وبلجيكا وهولندا، التي وقعت على الإعلان الأخير، رغم أن بعض الدول الرافضة مثل فرنسا وألمانيا تظل وجهات مهمة بسبب القرب والشبكات الجالية والفرص الاقتصادية. لكن الهجرة لا تختار بحسب الخطاب الحقوقي، وإنما وفق فرص العمل وسهولة العبور، ما يجعل الدول الداعمة للتعديل الوجهة الأساسية للمغاربة، مع شروط إدماج أكثر صرامة وترحيل أسرع للجنح والجرائم. علاوة على أننا نجد بالمقابل، الدول الرافضة رغم خطابها الحقوقي الأكثر ليونة، تبقى أبوابها القانونية ضيقة، ما يجعل واقع الهجرة المغربية يعكس مصالح اقتصادية وضغوطا عملية أكثر من أي نقاش حقوقي أو سياسي.
ويخلص متابعون إلى أن الانقسام الأوروبي الحالي لا يعكس فقط خلافا قانونيا، بل أزمة رؤية حول مستقبل أوروبا ودورها القيمي. أما بالنسبة للمغرب، فالتحدي يتمثل في تفادي التحول إلى منطقة عازلة للهجرة، والحفاظ على توازن دقيق بين الشراكة مع أوروبا، وحماية سيادته والتزامه المعلن بحقوق الإنسان.







