في إطار مهامه كمؤسسة استشارية واستشرافية تعنى بالسياسات العمومية المتعلقة بأفراد الجالية المغربية بالخارج وتقوية مساهمة هؤلاء المغاربة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية لوطنهم الأم، وفي إطار الإحاطة بإشكاليات الهجرة واستشرافها والمساهمة في تنمية العلاقات بين المغرب وحكومات ومجتمعات بلدان إقامة المهاجرين المغاربة، أنجز مجلس الجالية المغربية دراسة جديدة “حول التمدرس والهدر المدرسي في صفوف الجالية المغربية بجزر البليار”.
الدراسة التي تم تقديمها في بالما دي مايوركا يوم الخميس 30 أكتوبر 2025 تأتي تكميلا لدراسة سابقة أعدها مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2015 بعنوان “الجالية المغربية بجزر البليار مقاربة الاحتياجات والإشكاليات الاجتماعية”، والتي كان موضوع الهدر المدرسي أحد الإشكاليات التي توقفت عليها، والتي دعت إلى ضرورة تعميق البحث حول الموضوع.
وقد سمحت السنوات العشر بإجراء تقييم مقارن بين الوضع التعليمي آنذاك والوضع الحالي والوقوف على العوامل التي تدفع مغاربة جزر البليار إلى ترك الدراسة في سن مبكر، سواء كانت عوامل متعلقة بالبعد الأسري أو بالسياق الاجتماعي وكذا تلك المتعلقة بالنظام التعليمي.
مسار دراسي لا يتعدى المستوى الإلزامي
اعتمد إنجاز الدراسة على مقاربة تجمع بين تحليل المعطيات الكمية المتوفرة في الإحصائيات الرسمية، والاشتغال على الدراسات المنجزة في الموضوع بالإضافة إلى إجراء سلسلة من الاستجوابات مع مختلف الفاعلين في الموضوع. ومن خلال نظرة عامة أظهرت الدراسة أن منطقة جزر البليار تعتبر ثاني جهة في إسبانيا بعد مرسيا من حيث الهدر المدرسي، إذ تصل نسبته إلى 18.2 بالمائة سنة 2024.
وقد بلغ عدد التلاميذ المغاربة المسجلين في المؤسسات التعليمية بجزر البليار 6,723 تلميذا سنة 2022، أي ما يمثل نسبة 23.2% من إجمالي المغاربة، وهو الرقم الذي سجل ارتفاعا قدر ب165 بالمائة في عشر سنوات، ليرافق بذلك النمو العددي للجالية المغربية بجزر البليار في هذه الفترة.
وإذا كان تطور حضور التلاميذ المغاربة بجزر البليار قد حقق معدلا مرتفعا في الفئات الصغرى وفي التعليم الأولي لكن الدراسة تسجل تطورا منخفضا ابتداء من التعليم الثانوي الإلزامي، ففي سنة 2023، لم يتجاوز عدد التلاميذ المغاربة الذين واصلوا دراستهم بعد التعليم الإلزامي 7.48%، مقابل 17.71% من مجموع تلاميذ جزر البليار.
وقد أرجأت الدراسة سبب الانخفاض إلى عاملين أساسيين هما: اختيار العديد من التلاميذ الانتقال إلى التكوين المهني الأساسي، وعودة آخرين، خلال جائحة كورونا والسنتين المواليتين إلى المغرب لأسباب اقتصادية.
وإذا كان حضور التلاميذ المغاربة في التكوين المهني من المستوى المتوسط، قد ارتفع من 94 تلميذا سنة 2010 إلى 253 في 2023، أي بزيادة قدرها 169.15%، بحيث بلغ متوسط نسبة مشاركة الإناث 51.38%، إلا أن نسبة التلاميذ المغاربة في التكوين المهني من المستوى العالي تظل منخفضة، “بالرغم من أنها شهدت زيادة ملحوظة، حيث ارتفع عدد المسجلين من 17 في عام 2010 إلى 128 في عام 2023” تضيف الدراسة.
من جهة أخرى أكدت الدراسة ضعف حضور الطلبة المغاربة في جزر البليار على مستوى التعليم الجامعي العالي، بالنظر لما يتطلبه ذلك من وقت وموارد مالية.
واستنادا إلى أرقام جامعة جزر البليار فقد تم تسجيل ما مجموعه 33 ألف و263 طالبا خلال الفترة من 2010 إلى 2021، لم يكن من بينهم سوى 138 طالباً مغربياً، أي ما يمثل 0.42% من الإجمالي؛ وأبرزت الدراسة أن نسبة إكمال الطلبة المغاربة لتكوينهم العالي في جامعة جزر البليار لا تتجاوز نصف المسجلين، وانه من كل 100 تلميذ مغربي يكمل مرحلة التعليم الثانوي الإلزامي، لا يتمكن سوى 3 طلاب من إنهاء مسار جامعي.
عوامل تخلي التلاميذ عن المدرسة
استنادا إلى الأبحاث حول الهدر المدرسي المبكر سواء من منظور سوسيولوجي أو تربوي خلصت الدراسة إلى وجود مجموعة من العوامل تفسر مغادرة التلاميذ المغاربة للدراسة في وقت مبكر.
أولا السياق العائلي، فقد كشفت مجموعة من الاستجوابات المنجزة في إطار هذه الدراسة إلى ان انتماء الجيل الأول من الهجرة إلى مناطق قروية بمستويات اقتصادية وثقافية ولغوية منخفض يمكن أن يفسر نسبيا عدم مبالاة الآباء بتغيب أو مغادرة أبنائهم للدراسة. كما أن قوة العادات في إعادة إنتاج البنيات والعلاقات الاجتماعية الأصلية، أثرت على علاقة الأباء المهاجرين بدراسة أبنائهم، بحيث انتقلت هذه “اللامبالاة” حتى إلى مراكز تعليم اللغة والثقافة الأصلية حيث بدا اهتمام الآباء بالموضوع ضعيف، بالنظر إلى إعطاء الأولوية لتأمين الوضع الاقتصادي وتحسين ظروف المعيشة.
لكن الدراسة تتوقع في هذا الجانب أن تنخفض معدلات التغيب والهدر المدرسي لدى الأجيال اللاحقة التي بدأت تجد مكانها الاجتماعي تدريجياً.
أما العامل الثاني المتعلق بالسياق الاجتماعي، فقد شددت الدراسة على التأثير السلبي للأحكام المسبقة السلبية على المهاجرين المغاربة، مما يؤدي إلى الانعزال وتعزيز الهوية ورفض الاندماج، وهو الأمر الذي يتكرر حتى لدى الشباب المولود في إسبانيا والحاصل على الجنسية، ويصبح هذا الوصم الاجتماعي في التعليم الإلزامي كعامل مساعد على تدني التحصيل الدراسي، والتغيب، والانقطاع المبكر عن الدراسة.
كما أن ارتفاع كراهية الأجانب والعنصرية بمختلف مظاهرها وتجلياتها، وتشديد قوانين الهجرة والتضيق على حرية الممارسة الدينية التي يقرها الدستور، تجعل من الصعب تقليل معدلات الانقطاع المبكر عن الدراسة بشكل ملموس، وفق خلاصات الدراسة.
أما العامل الثالث للهدر المدرسي الذي ورد في مجموعة من الحوارات التي اعتمدتها الدراسة فيتمثل في النظام التعليمي الذي أظهر محدوديته في إدارة تنوع أصول وثقافات التلاميذ، وتحفيزهم وتوجيههم وتقديم بدائل كافية للدراسات بعد التعليم الإلزامي.
وتمت الإشارة في المقابلات إلى مجموعة من المشاكل التي يعاني منها النظام التعليمي في جزر البليار من بينها نقص الموارد في المؤسسات التعليمية، وقلة تدريب الأساتذة لمواجهة التنوع، وعدم قدرة التكوين المهني على التوفيق بين التخصصات المقدمة واحتياجات سوق العمل، ورغبات الطلاب أنفسهم.
بالإضافة إلى ذلك يعاني النظام التعليمي من معضلتين أساسيتين، هما غياب توزيع عادل للتلاميذ المهاجرين من بينهم المغاربة على المؤسسات التعليمية وتمركز معظمهم في مدارس محددة يساهم في انخفاض مستواها؛ ثم إصرار الأساتذة على توجيه التلاميذ المغاربة نحو التكوين المهني، مراعاة للدخل الاقتصادي للأسر وسرعة ولوج سوق الشغل وهو ما يُنظر إليه كدليل على التمييز.
أهم التوصيات
من أجل معالجة الهدر المدرسي المبكر في صفوف التلاميذ المغاربة في جزر البليار والحد منه، ترى الدراسة في هذا الصدد ضرورة تظافر جهود الإطار التربوي والأسر والمؤسسات، لا سيما البلديات والحكومات الذاتية، وتقترح مجموعة من الإجراءات من بينها: التدخل المبكر منذ مراحل التعليم الابتدائية للحد من العنصرية وتخفيف تمركز التلاميذ المهاجرين في بعض المدارس، وتقوية المراقبة ضد السلوكيات والمواقف المعادية للأجانب؛ وتعزيز برامج الإرشاد الفردي والدعم الأكاديمي، وحث الأباء المهاجرين على الاهتمام أكثر بدراسة أبنائهم والمشاركة في جمعيات أباء التلاميذ؛ ووضع برامج التوجيه الأكاديمي والمهني الموجهة أيضا لعائلات، مما يسهل اتخاذ قرارات بشأن الدراسات بعد التعليم الإلزامي، سواء كانت في التكوين المهني أو الجامعي؛ بالإضافة إلى برامج لتدريب الأساتذة على تدبير التعدد الثقافي.
كما أشارت الدراسة إلى بعض الإشكاليات التي يمكن أن يساهم حلها في الحد من ظاهرة الانقطاع الدراسي، من بينها الفجوة القائمة بين جمعيات المساجد، التي تركز على تعليم اللغة والثقافة العربية، وبين المؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى ضعف العمل الجمعوي في صفوف الجالية المغربية بجزر البليار، التي، رغم حجمها العددي المهم، تفتقر إلى الوسائل الكفيلة بجعل صوتها مسموعًا والدفاع عن مصالحها.









