نشر مركز التفكير الفرنسي “تيرا نوفا” يوم الثلاثاء 26 غشت 2025 دراسة جديدة بعنوان “سياسة الهجرة: الاستثناء الإسباني”، أنجزها كل من كانيا راتشو، باحثة في القانون الأوروبي وخبيرة مستقلة في قضايا اللجوء والحقوق الأساسية، وأنطوان دو كليرك، خبير مستقل في الترافع حول التأثير المجتمعي للمنظمات.
في سياق أوروبي تطبعه السياسات المتشددة تجاه المهاجرين وتزكيها خطابات مناهضة للتعدد تربط الهجرة بالجريمة وتجعل من إشكالياتها وقودا لحملاتها الانتخابية، ركزت الدراسة ركزت على ثلاث عناصر في سياسة الهجرة الإسبانية جعلتها تصبح نموذجا أوروبيا مستفردا في تدبير الهجرة.
فالعنصر الأول لـ”لاستثناء الإسباني”، وفق “تيرا نوفا” هو إصلاح قانون الهجرة بما يسمح بتسوية أوضاع المهاجرين، وتبسيط إجراءات الحصول على تصاريح الإقامة وإعطاء فرصة التسوية الإدارية حتى بالنسبة للاجئين الذين رفضت طلباتهم في البلاد، والهدف من ذلك هو تسوية وضعية 300 ألف مهاجر بشكل سنوي إلى غاية سنة 2027 مع تسهيل إجراءات التجمع العائلي.
منافع الهجرة على النمو الاقتصادي والديمغرافي
وكانت نتيجة هذا التوجه تحقيق نمو اقتصادي استثنائي في المنطقة الأوروبية. ففي بداية سنة 2025 كانت إسبانيا البلد الأوروبي الوحيد الذي ارتفع ناتجه الداخلي الخام ب3.2 بالمائة، والفضل يعود إلى ثلاث عوامل رئيسية هي السياحة وبرنامج الإقلاع الأوروبي وسياسة الهجرة، “فقد اختارت إسبانيا ملاءمة الهجرة مع حاجيات النمو الاقتصادي، وبالخصوص من خلال إدماج المهاجرين الموجودين فوق ترابها من خلال تسوية الوضعية القانونية للعمال الأجانب”.
فسياسة التسوية التي اعتمدتها إسبانيا سنة 2005 والتي شملت 600 ألف شخص، تبين أنها لم تؤدي إلى ما يسمى ب”تأثير الجذب” «l’appel d’air»، بل على العكس، “ساهمت هذه الإجراءات في رفع معدلات التشغيل النظامي للمهاجرين، من دون التأثير سلباً على فرص العمل المتاحة للإسبان، كما أدت إلى تقليص العمل غير المهيكل”.
وبالإضافة إلى مساهمتها في النمو الاقتصادي تساعد سياسة الهجرة في تعويض التراجع الديمغرافي؛ فإسبانيا التي تشكل نسبة الأجانب بين سكانها 19 بالمائة معظمهم من الشباب، وتحتل الجالية المغربية مكانة الصدارة، تشير الإحصائيات إلى أن الهجرة أنقذت مستقبلها الديمغرافي، ولولا الهجرة لفقدت البلاد بين 48 و24 مليون نسمة بحلول سنة 2100.
الإدماج عبر سوق الشغل
أما العنصر الثاني الذي توقفت عليه دراسة مركز التفكير “تيرا نوفا” فيما يخص سياسة الهجرة الإسبانية، فهو تبني استراتيجية إدماج للمهاجرين مبنية على فرص الشغل. “فالسياسات العمومية ترتكز على الإدماج المهني، بمشاركة منظمات أرباب العمل… ويساعد اكتساب المهارات والاعتراف التدريجي بالمؤهلات في الاندماج الاجتماعي والاقتصادي”، تضيف الدراسة مشيرة إلى أنه لازالت هناك عقبات تواجه هذه الاستراتيجية، مثل عدم استقرار بعض الوظائف، وصعوبات الحصول على السكن، أو عدم المساواة في الحصول على الحقوق.
وقد ساعد وجود رأي عام محلي داعم لاستقبال المهاجرين على الرغم من تزايد الاستغلال السياسي للملف في وضع “رؤية براغماتية للهجرة، تقوم على الاندماج من خلال العمل والاعتراف بالمساهمة الاقتصادية والاجتماعية للمهاجرين”.
من جهة أخرى أدرجت الدراسة عناصر أخرى لسياسة الهجرة الإسبانية يفرضها الموقع الجغرافي للبلاد الذي يجعلها أمام إشكاليات تدبير الحدود الأوروبية ويفرض عليها عقد اتفاقيات مع الدول المجاورة لضبط تدفقات الهجرة غير القانونية، وكذا نهج مقاربة أمنية تثير الانتقادات خاصة فيما يتعلق بظروف الاستقبال ووضعية طالبي اللجوء وعمليات الإرجاع الفوري، تنضاف إليها إشكاليات الاختصاص بين الحكومة المركزية والحكومات الجهوية فيما يتعلق باستقبال وتوزيع القاصرين غير المرافقين.
وخلصت الدراسة إلى أن سياسة الهجرة في إسبانيا تلائم بشكل براغماتي بين الرغبة في تلبية الاحتياجات الهيكلية للبلاد ومراعاة القيود الأوروبية، “وعلى الرغم من استمرار وجود تحديات كبيرة، لا سيما على الحدود وفي معالجة طلبات اللجوء، أثبت إسبانيا أن الإدارة الإنسانية والمنظمة والشاملة للهجرة يمكنها ليس فقط أن تنجح، بل أن تصبح أيضا مكتسبا استراتيجيا في سياق أوروبي يسوده عدم الثقة والرفض.