هل تعلم أن الأحياء العتيقة بفاس هي موطن آخر ساعات القرون الوسطى بالعالم، وحاضنة لأعرق تقنيات قياس الزمن؟ وهي ساعات تشتغل وفق معادلات علمية وتقنية معقدة تعتمد الطاقة المائية، وتعتبر آخر ساعات من نوعها قبل ظهور الساعات الميكانيكية.
قام المهندس المغربي فؤاد موري اللجاءي* بمجهود كبير لتفكيك أسرار آليات قياس الزمن، التي كان يكتنفها الغموض إلى وقت قريب من خلال إصداره القيم “الساعات المائية، من أرخميدس إلى الساعات والمنجانات العربية”، والذي قدم من خلاله تفاصيل المبادئ الأساسية وكيفية اشتغال الساعة البوعنانية المائية الضخمة (اكتمل بناؤها منتصف القرن 14م) والساعة الفلكية الأسطرلابية بجامعة القرويين (تحفة من هندسة القرون الوسطى)، كما نجح في تفكيك ألغاز “دار ذات الطاسات الثلاثة عشر” المعروفة أيضا بالمنجانة (المكانة).
الكتاب الصادر عام 2023، يسافر بالقارئ في رحلة تاريخية توثيقية أبعد من العصور الوسطى، حيث يتوغل بعيدا في الزمن من أجل رصد عمل الأجهزة الأولى لرصد الزمن ودلالات كل تلك العناصر، معززا كل تلك المعلومات بصور ورسوم ومخطوطات وتصاميم تبسط قدر الإمكان المراد شرحه.
ويتوقف فؤاد موري اللجاءي عند الأحياء العتيقة بفاس، التي لاتزال محافظة على كنوز حقيقية تحتاج إلى تسليط الضوء على العبقرية المغربية التي نجحت في ابتكار آليات لقياس الزمن، من قبيل الاسطرلابات ومختلف الأدوات والساعات المائية المعروفة باسم المنجانات، وساعة فاس البوعنانية الضخمة والساعة الاسطرلابية بجامعة القرويين، وتعد ضمن الكنوز التي لعبت دورا مهما في تطور العلوم وفي منح الزمن بعدا جديدا بحسابات دقيقة ومعقدة.
ويجرد الكتاب آخر الساعات المعروفة فيما يعرف بغرب أرض الإسلام خلال عصر المرابطين والموحدين، والتي كانت متواجدة بمراكش وفاس وغرناطة وتلمسان، قبل اختفائها تدريجيا مع مرور الزمن، ولم يصمد منها سوى الساعة البوعنانية الضخمة والساعة الأسطرلابية في القرويين:
الساعة البوعنانية الضخمة أو المنجانة
شيدت عام 1357م، وتعرف كذلك بدار ذات الطاسات الثلاثة عشر، وبالمنجانة، التي حرف عنها كلمة (المكانة بالدارجة المغربية)، وتتواجد بواجهة المدرسة البوعنانية، وتعد قبلة للسياح في مختلف دول العالم.
كانت الساعة تشتغل وفق نظام تقني دقيق على 13 صحنا نحاسيا موضوعا على حامل من خشب الأرز، فوقها عدد مماثل من النوافذ تسقط منها على رأس كل ساعة كرة حديدية مصدرة صوتا في صحن نحاسي، فيما تبقى النافذة التي تعلو الصحن الذي وقعت عليه الكرة مفتوحة وهو ما كان يسهل على المارة معرفة الوقت بعد عدّهم للنوافذ المفتوحة.
وتوجد بالكتاب شروحات دقيقة وتفاصيل ومعلومات تذكر لأول مرة عن كيفية اشتغال هذه الساعة التاريخية.
الساعة المائية الأسطرلابية في القرويين
تنتمي هذه الساعة إلى الجيل الأول من الساعات المائية على مستوى العالم، بل ويشار أنها أقدم ساعة مائية صامدة، وهي متواجدة في الزاوية الشمالية الشرقية في “الغريفة” وهي غرفة صغيرة تتكئ على مئذنة القرويين، التي يعلن منها المؤذن دخول وقت الصلاة.
ووقف المهندس موري اللجاءي في كتابه على وجود عناصر فيزيائية لساعة فلكية حقيقية، تسمح بتنظيم نظام الأسطرلاب الداخلي والخارجي، وهو ما شجعه على مواصلة رحلة التنقيب في أسرار هذه الكنوز التاريخية، حيث يعكف في الوقت الحالي على إنجاز دراسة كاملة عن ساعة القرويين الأسطرلابية مقرونة بمحاكاة حقيقية.
تجدر الإشارة إلى أن كتاب ” الساعات المائية، من أرخميدس إلى الساعات والمنجانات العربية” صادر باللغتين العربية والفرنسية، ويتضمن 14 ملحقا، واعتمد على مجموعة ضخمة من المراجع والمصادر العالمية، وهو الكتاب الثاني للمهندس فؤاد موري اللجاءي، بعد كتابه الأول عن “الساعات خلال العصور الوسطى” الصادرعام 2017.
إن الساعات المائية والأسطرلابية بفاس ليست مجرد أدوات لقياس الزمن، بل شواهد على عبقرية هندسية وذكاء فكري يعكس تفاعلا مبكرا للحضارة المغربية مع العلوم والتطور الحاصل وقتها، وكتاب فؤاد موري اللجاءي بمقارباته المتعددة، يسلط الضوء على حقبة تاريخية مهمة تستحق التثمين باعتبارها تندرج ضمن التراث الثقافي المغربي غير المادي.
(*) فؤاد الموري اللجاءي، جامعي ومهندس من المعهد الوطني للفنون والمهن في باريس، عمل في مجال تكنولوجيا المعلومات وأدار شركة هندسية لنحو ثلاثين عاما.
كما قام بتدريس علوم الحاسوب والرياضيات في مستويات التعليم العالي.









