قدمت ورقة صادرة عن مركز الابتكار في الحوكمة الدولية (CIGI) رؤية شاملة حول حوكمة الهجرة في الهند، مسلطة الضوء على التجربة الهندية كنموذج متقدم لإدارة الهجرة وتنظيم شؤون المهاجرين، مع دروس قابلة للتطبيق في مناطق أخرى حول العالم.
الهجرة الهندية: تاريخ طويل ومستمر
توضح الورقة، التي أعدها السفير الهندي السابق “سانجيه بهاتاشاريا”، أن تجربة الهندية في الهجرة تمتد لقرون، بدءا من العصور القديمة إذ تعود تجارب الهجرة الهندية إلى حضارة وادي السند، مرورا بالعصر الاستعماري، حيث تم إرسال أكثر من 1.3 مليون عامل هندي إلى مستعمرات بريطانية وهولندية، وفرنسية تحت نظام العمل المأجور. لتتشكل بذلك أولى شبكات الشتات الهندي المعاصر.
شتات هندي مؤثر عالميا
لدى الهند أكبر جالية في العالم، تضم أكثر من 35 مليون شخص يعيشون في خارج البلاد، يبلغ عدد المواطنين الهنود في الخارج 17 مليونا، إضافة إلى 19 مليونا من أصل هندي يحملون جنسيات أجنبية، منهم عمال مهاجرون ومهنيون مؤثرون في مجالات متعددة، يتوزعون على عمالة منخفضة المهارات ومحترفين ذوي مهارات عالية وطلاب وأفراد ينشطون في الاقتصاد الرقمي. وتُعد تحويلاتهم المالية ركيزة اقتصادية مهمة، حيث بلغت 118 مليار دولار أمريكي في عام 2024، وفقا لمسح بنك الاحتياطي الهندي. وتُظهر الدراسات أن معظم العمال يمارسون الهجرة الدائرية، بينما يتنقل المهنيون والطلاب إلى بلدان ثالثة.
سياسات متكاملة بين الهجرة والتنمية
في تحول استراتيجي لسياسات الهجرة، أطلقت الهند نموذجًا متقدمًا لحوكمة الهجرة يهدف إلى تمكين المواطنين، وتعزيز التنمية الوطنية، وتنظيم التنقل الخارجي بشكل آمن ومنظم. وتشير الدراسة، التي ورد تفصيلها في موجز السياسة رقم 210 الصادر عن مركز الحوكمة الدولية، إلى أن الهند ربطت بين سياسات الهجرة والتنمية الوطنية، حيث وضعت إطارا قانونيا ينظم الهجرة ويضمن حماية العمال، مع التركيز على تحسين فرص العمل والأجور وتمكين المهاجرين. تتضمن السياسات برامج حماية مؤقتة، وتسويات قانونية لتسهيل إدماج المهاجرين، إضافة إلى تعزيز التعاون الإقليمي والدولي.
التحديات المستمرة
على الرغم من الإجراءات، ما زالت هناك تحديات كبيرة تواجه الحكومة الهندية، من أبرزها الهجرة غير النظامية، واستغلال بعض الفئات الضعيفة، وضعف التنسيق متعدد الأطراف. وتشير الورقة إلى أن هذه القضايا تتطلب حلولًا شاملة ومستدامة لضمان حقوق المهاجرين ومصالح الدولة على حد سواء.
التكنولوجيا في خدمة الحوكمة
أبرزت الورقة أهمية الحوكمة الرقمية في الهند، حيث تم اعتماد منصات إلكترونية لتسهيل إدارة الهجرة وتقديم الخدمات للمهاجرين، بما يعزز الشفافية، ويسهل إصدار التصاريح، ويضمن متابعة حقوق العمال. يُعد هذا التحول الرقمي جزءا من رؤية الهند لاستراتيجية شاملة لإدارة الهجرة.
فقد أُطلقت منصة e-Migrate عام 2014 لتسهيل التوظيف الخارجي، والتحقق الرقمي من عقود العمل، وربط العمال بالمؤسسات التعليمية. وقد ساهمت في تقليص التدخلات البيروقراطية، وتحسين التنسيق بين الجهات المعنية، وتفكيك دور الوسطاء غير الرسميين.
كما شهد نظام الجوازات إصلاحًا شاملًا عبر منصة PSP، التي عززت الكفاءة والشفافية، وربطت بين أكثر من 993 مكتبًا بريديًا و37 مكتبا سياديا لإصدار الجوازات. التوصيات تدعو إلى دمج هذا النظام مع أنظمة الهجرة الذكية لتسهيل السفر بدون تلامس.
ووقّعت الهند اتفاقيات مع اليابان، كوريا، تايوان، إسرائيل، البرتغال، وموريشيوس لتوفير فرص عمل مجزية في قطاعات مثل الرعاية، البناء، والصناعات التقنية. هذه الاتفاقيات توفر أجورا أعلى وظروف عمل أفضل مقارنة بالخليج، وتعد بديلا استراتيجيا للهجرة التقليدية.
الدروس العالمية
تستخلص الورقة عددا من الدروس التي قد تكون مفيدة للمجتمعات المضيفة حول العالم، خاصة في مناطق تواجه موجات هجرة كبيرة:
+ دمج الهجرة ضمن استراتيجيات التنمية الوطنية يحقق مكاسب اقتصادية واجتماعية.
+ تدريب وتمكين المهاجرين يعزز اندماجهم ويزيد من إنتاجيتهم.
+ استخدام التكنولوجيا الرقمية يحسّن إدارة الهجرة ويضمن حماية حقوق المهاجرين.
+ التنسيق الإقليمي والدولي يسهم في استدامة السياسات ويقلل المخاطر المرتبطة بالهجرة غير النظامية.
بهذا تقدم الورقة تحليلا معمقا لتجربة الهند في حوكمة الهجرة، مع توصيات قابلة للتطبيق في مناطق مثل أمريكا اللاتينية والكاريبي أو إفريقيا، حيث تسعى بعض الدول لإيجاد حلول متكاملة لإدارة الهجرة، وضمان حقوق المهاجرين، وتحقيق التنمية المستدامة.