عرفت إسبانيا خلال العقود الأخيرة تحولات كبيرة قادتها إلى أن تكون إحدى أبرز دول الهجرة في أوروبا بل استثناء أوروبيا، حيث يشكل المهاجرون ما يقارب خمس سكانها. ويلعب المغرب دورا أساسيا في هذا التحول، سواء من خلال جاليته الكبيرة المقيمة في إسبانيا أو عبر التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين في مجال ضبط الحدود وإدارة التدفقات البشرية.
تشير مذكرة بحثية نُشرت على موقع tnova.fr يوم 26 غشت 2025 إلى أن المغاربة يمثلون أكبر جالية أجنبية في إسبانيا، بأكثر من مليون مقيم، بينهم 343 ألف عامل مسجل في الضمان الاجتماعي سنة 2025. ويتركز ثلث هؤلاء في قطاعات حيوية مثل الزراعة والصيد البحري وتربية المواشي، ما يجعلهم ركيزة أساسية للاقتصاد الإسباني.
برامج تسوية الأوضاع
منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفقا للمذكرة البحثية التي جاءت في 130 صفحة، اعتمدت إسبانيا برامج متكررة لتسوية أوضاع المهاجرين غير النظاميين، حيث استفاد المغاربة بنصيب بارز فيها، مثل برنامج 2005 الذي شمل 600 ألف شخص. وأظهرت نتائج هذا البرنامج آثارا إيجابية: زيادة التشغيل الرسمي، تراجع سوق العمل غير المهيكل، وارتفاع عائدات الضرائب دون الإضرار بفرص العمل بالنسبة للإسبان.
الهجرة رافعة للنمو
المذكرة اختار لها معدوها عنوان: “سياسة الهجرة: الاستثناء الإسباني” على اعتبار أن الهجرة ساهمت، إلى جانب السياحة وخطة الإنعاش الأوروبية، في جعل إسبانيا الدولة الوحيدة في أوروبا التي سجلت نموا في الناتج المحلي الإجمالي سنة 2024 بنسبة 3.2%. ووفق تقديرات الأمم المتحدة، تحتاج البلاد إلى إدماج 12 مليون مهاجر ما بين عامي 2000 و2050 للحفاظ على توازن سوق العمل في ظل تراجع الخصوبة وشيخوخة السكان. وفي هذا الإطار، تمثل اليد العاملة المغربية أحد أعمدة التنمية الاقتصادية.
شراكة حدودية وأمنية وتعاون مستمر
بحسب المذكرة فإن دور المغرب لم يقتصر على كونه بلدا مصدرا للهجرة، بل أصبح شريكا أساسيا في مراقبة الحدود. فمنذ التسعينيات، عمل البلدان على تعزيز التعاون للحد من العبور غير النظامي عبر مضيق جبل طارق وتطوير آليات المراقبة في جزر الكناري. كما استفاد المغرب من دعم أوروبي لتأمين موانئه وبنياته التحتية، مثل بناء الحاجز المحيط بميناء طنجة للحد من محاولات التسلل عبر الشاحنات نحو الجزيرة الخضراء.
وأكد الباحثان في هذه الورقة العلمية أن توقيع المغرب وإسبانيا أول اتفاقية لإعادة القبول عام 1992، عزز الإطار القانوني للتعاون في قضايا الهجرة، ورغم بعض الصعوبات المرتبطة بتنفيذها، فقد كانت هذه الاتفاقية مرجعا أساسيا في إدارة التدفقات البشرية. كما يظل المغرب بالنسبة لإسبانيا شريكا اقتصاديا مهما، إذ تجمع بينهما علاقات تجارية واسعة في مجالات متعددة.
وتنوه الدراسة إلى أن رغما عما عرفته العلاقات الثنائية من أزمات مرتبطة بالهجرة، أبرزها في ماي 2021 حين دخل نحو 8000 شخص إلى مدينة سبتة بعد تخفيف القيود الحدودية من الجانب المغربي، في سياق توتر سياسي، فإن هذه الأزمة لم تُنهِ التعاون الاستراتيجي، إذ عادت العلاقات إلى طبيعتها سنة 2022، ما يؤكد متانة الشراكة رغم التحديات.
الرأي العام والسياسة الداخلية
ووفقا للمذكرة فإن الرأي العام الإسباني يمتاز بانفتاح نسبي تجاه الهجرة مقارنة بدول أوروبية أخرى، رغم صعود تيارات متشددة مثل حزب “فوكس”. وتدافع الحكومة الحالية بقيادة بيدرو سانشيز عن الهجرة باعتبارها ضرورة اقتصادية وديموغرافية، وهو ما يعكس إدراكا متزايدا للدور المحوري الذي يلعبه المهاجرون، وفي مقدمتهم المغاربة، في دعم الاقتصاد الوطني.
المغرب في قلب المعادلة الأوروبية
تخلص الدراسة إلى أن المغرب أصبح عنصرا أساسيا في المعادلة الأوروبية – المغاربية للهجرة. فمن خلال جاليته الواسعة والمندمجة، وتعاونه الأمني، وشراكاته الاقتصادية، رسخ موقعه كشريك استراتيجي لإسبانيا، وأسهم في بلورة نموذج خاص للهجرة يقوم على الإدماج عبر العمل وتسوية الأوضاع، في مقابل السياسات التقييدية السائدة في دول أوروبية أخرى