مهاجرو المراكب المصريون ...من "المقلاة إلى النار"

الخميس, 24 أبريل 2014

هو واقع بين نارين، أو بالأحرى بين بحر ونهر. هو قادم من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. هو يحيا حياة يتمناها أكبر كبار مدينته القديمة، لكنه بمقاييس أصغر صغار مدينته الجديدة، يعيش حياة لا تسر عدواً أو حبيباً. هو طفل في الـ15 من عمره بالسنوات البيولوجية، لكنه بالحسابات الفعلية، ربما يتجاوز الـ150 سنة.

منذ وصل إيطاليا آتياً عبر البحر على متن مركب، تسميها «الحكومة» هذه الأيام «مركب هجرة غير شرعية»، لكنهم يسمونها في مدينته القديمة «مركب الحلم والأمل».

حين وصل إيطاليا، كان محظوظاً في أنه عاش، ولم يمت ككثيرين غيره. لكن السلطات الإيطالية كانت في استقبال «مركب الحلم والأمل»، فرحّل بعضهم، وأوقف بعضهم الآخر، وأودع الأطفال مركز الرعاية. هكذا، يحتم القانون الإيطالي، حيث سيناريوات لمصائر الأطفال القُصر المسافرين بطريقة غير شرعية.

تقول مديرة برنامج الحماية في «هيئة إنقاذ الطفولة» نهير نشأت: «المراكب التي تقل مهاجرين غير شرعيين إلى إيطاليا، إما تعترضها السلطات الإيطالية في البحر، أو ترسو على شواطئها. وفي الحالة الأولى، تدوّن الشرطة أسماء المهاجرين ومن ثم تحقق من أعمار المشكوك في أنهم قُصر (أقل من 18 سنة)، فإن ثبت ذلك، تتخذ إجراءات الحماية وتبدأ بإيداع الصغار دار رعاية».

وتمضي نشأت شارحة أنه في حال لم تُعترض المركب، ووصل المهاجرون إلى مقصدهم حيث سمسار التشغيل، يتعرّض الأطفال لأحد احتمالين، إما الوصول إلى أقاربهم أو معارفهم الذين يتولّون شؤونهم، أو يقع الطفل ضحية الاستغلال في أنواعه وأشكاله، بدءاً بالحياة على الهامش بحكم عدم قانونية الإقامة، مروراً بظروف العمل بالغة القسوة، وانتهاء بالاستغلال الجنسي.

الصغير المقيم في دار الرعاية في روما محظوظ، لأنه لم يقع تحت طائلة الاستغلال في إيطاليا، لكنه يحمل معه هموم بلدته وظروفه التي أجبرته على ركوب مركب الحلم والأمل. معظم كلامه يدور عن مشاعر القلق على والدته وإخوته الذين لا يملكون مالاً أو بيتاً، وعلى والده الذي باع ما يملكه للحصول على 35 ألف جنيه كلفة السفر، وإن لم يسددها فالسجن ينتظره.

يتعلّم الصغير اللغة الإيطالية في الدار، وإن لم تطأ قدماه أرض مدرسة في بلدته القديمة. والده ينتظر المال من الابن «المهاجر» إلى إيطاليا. لكن الابن ينتظر مرور ثلاث سنوات قبل أن يخرج من الدار ويباشر في إجراءات الإقامة. مرة يقول إنه سيعود إلى مصر ما أن تمضي السنوات الثلاث، وأخرى إنه لن يعود «لأن المشاكل في مصر كثيرة».

وتظل مشاكل مصر واحدة بالنسبة للجميع، لكن مشاكل إيطاليا ليست كذلك. فزميله المقيم في الدار ذاتها وصل إليها بعدما تنقّل بين خمس دور مختلفة، لأنه كثير العراك. قبلها تحقق له حلم العمل، فقد عمل قبل أن تحتجزه السلطات لدى مصري يمتلك محلاً للخضراوات. كان يستقيظ في الثالثة فجراً، ويعمل حتى منتصف الليل. أما مكان النوم، فكان وسائل المواصلات العامة.

أتم عامه الـ18 قبل أيام، وينتظر قرار مدير الدار لإصدار الأوراق اللازمة ليبدأ رحلة البحث عن عمل في شكل قانوني، لكنه بحكم خبرته يعرف أن ذلك ليس نهاية المطاف، بل بداية مطاف آخر ربما يكون أكثر صعوبة.

ومن روما إلى صقلية حيث تتطابق القصص والتجارب. زميل لهما أتم عامه الـ18 أيضاً وأمضى في الدار بضع سنوات بعدما وصل إيطاليا بحراً. ترك بلدته في صعيد مصر خوفاً من الثأر وبحثاً عن حياة أفضل. فقد ظل يعمل في سوبر ماركت لسنوات لم تمكنه من مساعدة أسرته أو نفسه. حديثه عن المستقبل ضبابي، لأنه بالفعل كذلك، وإن كانت نسبة الضبابية في بلدته القديمة في صعيد مصر أعلى.

عنوان طموح

«بلدنا أولى بولادنا» هو العنوان الطموح لمشروع «هيئة إنقاذ الطفولة» بالتعاون مع «جمعية الشباب للسكان والتنمية». ويهدف إلى رفع الوعي من أخطار الهجرة غير الشرعية للقُصر وحمايتهم من الاستغلال، مع إتاحة فرص بديلة تقيهم مغبة الهجرة غير الشرعية.

وينفّذ المشروع في محافظات الدلتا الإسكندرية والبحيرة والغربية، إضافة إلى أسيوط وتحديداً مركز أبنوب في صعيد مصر. وهو المركز الذي غزته ظاهرة الهجرة غير الشرعية في شكل صادم. كما يجري المشروع في مدن روما وميلانو وتورينو في إيطاليا حيث تتمركّز غالبية القُصر المصريين.

السيدة نشأت التي تعمل بين مصر وإيطاليا حيث الأطفال المصريون، توضح أن الفئة المستهدفة في المشروع هي 52 ألف طفل مصري معرّضين لأخطار الهجرة غير الشرعية، ويشمل حوالى 350 ألف طفل في شكل غير مباشر. وتؤكد: «لا يهدف المشروع إلى إيجاد فرص عمل، بقدر ما يسعى إلى خلق بيئة داعمة للتوظيف وتيسير سبل التواصل بين الفئة المتسهدفة والقطاع الخاص، فيتم التركيز على المسؤولية المجتمعية للشركات والربط بين أصحاب العمل والباحثين عن وظيفة، إضافة إلى تعزيز المهارات الحياتية والتدريب على المهارات المهنية لدى النشء لإعدادهم لخوض سوق العمل».

«الشيء الوحيد الذي أكسبه في إيطاليا هو المال، لكن طفولتي ضاعت وحالياً شبابي»، يقول أحد الذين وصلوا إيطاليا قبل سنوات طفلاً. وهو أيضاً أحد الذين يحلمون بالعودة، لكنه أشبه بمن هرب من المقلاة إلى النار. فإيطاليا هي عمل في ظروف بالغة الصعوبة في مقابل مبالغ مالية ضئيلة، ومصر هي فقر بلا عمل وديون لا نهاية لها.

تلفت نشأت إلى أن «الأطفال المصريين ضحايا الهجرة غير الشرعية يشعرون بالحاجة المُلحة للعمل لمساعدة أسرهم لسداد ديون تتكبدها من أجل تسفيرهم، لذا يحاول من يتم الإبقاء عليه في دور الرعاية، الهرب مراراً وتكراراً بحثاً عن عمل، حتى وإن كانت أعمالاً ذات خطورة عالية من دون تأمينات أو أوراق رسمية في ما يسمى العمل الأسود».

رفع الوعي أصعب ما في المسألة. فكيف تعمل على رفع وعي أب وأم لا حول لهما أو قوة، ولا مال لهما أو أمان للصغار، يبيعان ما يملكان من أجل حلم الحصول على مال من خلال الطفل المُرسل إلى إيطاليا على مركب غير شرعي عبر سمسار؟ والطفل نفسه واقع تحت تأثير ذلك الشاب، أو الرجل الذي ترك بلدته قبل سنوات، وهاجر إلى إيطاليا، وأرسل إلى أسرته مالاً وفيراً فحقق لها نقلة نوعية ومكانة اجتماعية جعلتها أعلى شأناً، وهو النموذج الذي تكاد تكون نسبة حصوله نادرة جداً.

العمل على رفع الوعي والدعم المجتمعي هو أول الطرق نحو مواجهة الظاهرة قبل حدوثها. وعلى رغم ذلك، تقول نشأت: «إن أصعب ما في المسألة هو أن الأهل والصغير يدركون الأخطار تماماً، لكنهم يؤمنون بأن «كلها موتة»، أي أن الطفل إن لم يمت في عرض البحر، أو تمت طفولته بالعمل الشاق والغربة، فإنه ميت فقراً في بلده».

والمحور الثاني الذي يعمل عليه المشروع هو لجان الحماية، وتهتهم بالجوانب الأمنية والنفسية والتعليمية والطبية والاجتماعية لمواجهة المشكلة قبل حدوثها. أما المحور الثالث فهو توفير بدائل للهجرة.

يذكر أن المشروع ومبادرة «قادة النشء» التي تعتمد على تثقيف القرين أي من النشء للنشء، لا سيما الأطفال الذين يفتقرون الثقة بالنفس والشعور بالانتماء، نجحا في الوصول إلى أكثر من 8 آلاف طفل فقط خلال عام 2013، بطريقة مباشرة. والمطلوب حالياً تعميم التجربة على مستوى مصر، لا سيما أن ظروف الفقر والجهل والفوضى قوة طاردة صغارَها.

عن جريدة الحياة اللندنية

 

«أبريل 2024»
اثنينثلاثاءالأربعاءخميسجمعةسبتالأحد
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930     
Google+ Google+