'الإسلام والمشترك الإنساني'.. كتاب يتلمس إمكانيات التعايش مع الآخر

الجمعة, 28 يوليوز 2017

في كتابه الجديد الصادر قبل أسبوع تحت عنوان “الإسلام والمشترك الإنساني: تسامح- تعايش- احترام الآخر”، باللغتين العربية والفرنسية، سعى المؤرخ المغربي الدكتور عبدالله بوصوف، أمين عام مجلس الجالية المغربية بالخارج، إلى إلقاء الضوء على بضعة مفاتيح في الرسالة الإسلامية كمدخل إلى استعادة القيم الدينية الأولى، التي كانت في أصل الحضارة العربية الإسلامية التي صهرت في بوتقتها مختلف الثقافات واللغات والأديان، واستطاعت أن تضمن مقعدا للجميع تحت ضوء الشمس.

المشترك الإنساني، في تعريف بوصوف، هو تلك القيم الإنسانية التي تشكل القاسم المشترك بين مختلف الأديان والحضارات، والتي هي نابعة من حاجة الإنسان الفطرية، بصرف النظر عن انتماءاته، وبغض النظر عن اللون والعرق والجنس والمعتقد.

فالحضارات التي تأسست على مزاعم الانتماء إلى لون معين أو طائفة أو دين مغلق سرعان ما كان مصيرها التفكك من الداخل بسبب الانجرار إلى المواجهة مع الآخرين على أساس الدفاع عن الانتماء الضيق المغلق، ذلك أن الحضارة المنفتحة هي وحدها القادرة على الاستمرار والبقاء.

ومن هنا يرى بوصوف أنه لا مكان في الدين الإسلامي “لتلك الأيديولوجيات التي تنشر ثقافة الصدام سواء بين الأفراد، كما هي التصورات العنصرية، أو بين الثقافات والحضارات، كما يروّج لها منظرو الحروب الحضارية، بل إن الإسلام يقر بسنة التنوع في الحياة باعتبارها معطى موضوعيا يقتضي إبداع وسائل من شأنها تعزيز التعايش والتواصل”.

إن كلمة “القسط”، على سبيل المثال، الواردة مرات عدة في القرآن تتسع لتشمل كل ضروب التعامل الحسن مع غير المسلمين، بغض النظر عن الانتماء الديني والاجتماعي والثقافي. فالأمر بالقسط موجه إلى المسلم في الخطاب القرآني باعتباره ميزانا للتعامل مع الآخر لا مع المسلم فحسب، فإذا كان الإسلام دعوة عالمية، فيجب من ثم وضع مفرداته وأدبياته في سياق عالمي دون الاقتصار على التفسير المحلي الذي يحول عالم الإسلام إلى قوقعة مغلقة، كما يفعل المتطرفون والمتشددون اليوم، والذين يسعون إلى تحويل الإسلام إلى ديانة طائفية.

ويرتبط بمفهوم القسط مفهوم آخر هو العدل، الذي يتكرر في آيات عدة، فتفعيل قيمة العدل “معيار ضروري لتجنب الاشتباه الذي قد يكون نتيجة لخلافات أو نزاعات بين المسلمين وغيرهم من المعتقدات الأخرى، حتى لا يتم الانحياز إلى من هم من نفس معتقد الحاكم أو القاضي”.

وقد ضرب بوصوف بضعة أمثلة عن قيمة العدل في تاريخ الإسلام، في مواقف جمعت بين مسلمين ويهود وانتصر الرسول عليه السلام لليهودي على حساب المسلم إعمالا بمبدأ العدل، وكذلك فعل الخلفاء من بعده.

ويضرب بوصوف مثالا بالنموذج الأندلسي في التعايش والحوار مع الآخر على أرضية حضارية تعلي من القيم الإنسانية المشتركة، وتقلص من مساحة الخلاف. فقد قدمت الأندلس نموذجا فريدا في التاريخ الإسلامي والإنساني معا للتعايش بين المكونات المختلفة للمجتمع الواحد، الأمر الذي انعكس على العطاء الحضاري والثقافي في تلك الرقعة الجغرافية، وكان حافزا على النهضة الفكرية التي نتجت عن الانصهار بين الثقافات الثلاث، الإسلامية واليهودية والمسيحية.

وبالنسبة لبوصوف، فإن العودة إلى نموذج الأندلس اليوم ليست ترفا فكريا أو متعة ثقافية أو حتى نوعا من استعادة المجد المنطفئ، وإنما هي استحضار للعناصر الإيجابية في هذه التجربة من أجل الاستلهام منها والاستفادة من دروسها وإعادة توظيفها في عصرنا الراهن، ذلك أن التجربة الأندلسية استبطنت في واقع الأمر تلك القيم القرآنية التي دعت إلى التعايش والتعارف بين الشعوب وإعمال مبادئ العدل والقسط والإنصاف.

وعلاوة على ذلك، فإن العودة إلى هذا النموذج هي بمثابة رد على القراءات المبتسرة للإسلام من المتطرفين، أو القراءة المتحاملة من لدن دعاة الصدام مع الإسلام الذين يقولون إن هذا الأخير غير قادر على إنتاج ثقافة التسامح، فالهدف إذن هو “تقديم صورة مغايرة عن المسلمين تنهل من نصف الكأس المملوء الذي لا يهتم به كثيرون، صورة مستنبطة من التاريخ وليست مختلقة من وحي الخيال”.

العودة إلى نموذج الأندلس ليست ترفا فكريا، بل هي استحضار للعناصر الإيجابية في التجربة من أجل الاستفادة من دروسها

وإذا كانت قيم التعايش تهم اليوم بشكل أكبر المسلمين الذين يعيشون بين ظهراني الأوروبيين في الغرب، فقد خصص بوصوف حيزا من كتابه للتعرض إلى واقع المسلمين في البلدان غير المسلمة، بوصفه أحد الذين ساهموا بشكل كبير في بناء مسجد ستراسبورغ وكان إماما به لسنوات طوال، وعمل وسط الجاليات المسلمة في الغرب أكثر من ثلاثين سنة.

ويعتبر بوصوف أن حال المسلمين في أوروبا وصل إلى وضع من التدهور في السلوك بسبب “النظر إلى دينهم نظرة منغلقة لا منفتحة في التواصل مع الآخر، وكأن الإسلام يحث المنتسبين إليه على إحداث قطيعة اجتماعية وثقافية مع كل من لا يشاطرهم نفس المعتقد أو التدين”؛ وهو يرى أن مثل هذا التصور “يعلي من قيم الصدام والعنف والحرب والقتال والاقتتال والفتنة”.

ويرى مؤلف الكتاب أن المسلمين، إذا تشبعوا بهذه القيم الإسلامية الإنسانية النبيلة، يمكن أن يكونوا عنصر سلام وازدهار في أي بقعة كانوا وفي أي حقبة عاشوا، سواء أكانوا أقلية أم أغلبية؛ ذلك أن العبرة ليست بالعدد والكثافة وإنما بالقيم المحمولة.

ومن النماذج التي يستند إليها نموذج صقلية التي استمر فيها وجود المسلمين رغم سقوط الحكم الإسلامي لقرنين من الزمان، وهذا ما جعل صقلية تصبح أحد المصادر الأساسية التي انتقلت منها الحضارة العربية، بفضل حركة الترجمة الواسعة التي عرفتها المدينة التي ضمت أناسا من مختلف الأديان والأعراق والأجناس.

ويقف بوصوف عند وثيقة المدينة، التي عكست صورة من صور التعايش في التجربة الإسلامية الأولى، وقيم العيش المشترك والاحترام والتواصل مع الآخرين، ذلك أن الوثيقة كانت اعترافا تاريخيا بحق المواطنة للجميع، بمن فيهم اليهود وغيرهم، كما أنها في ذات الوقت أصلت لمفهوم جديد لم يكن مسبوقا آنذاك، هو مفهوم “الأمة” الذي حل محل القبيلة أو العرق.

المطلوب اليوم، حسب بوصوف، إبداع اجتهادات جديدة تعزز انخراط المسلمين في المجتمعات الأوروبية من موقع الفاعلية، متناسبة مع الاجتهادات التي وضعها المسلمون في سياقات تاريخية مشابهة للسياق الراهن، كما كان الحال في الأندلس أو صقلية.

ومن النماذج المشرقة لهذا الاجتهاد فتوى الشيخ أبي عبد الله المازري، الذي كان أحد علماء عصره، حين أفتى بجواز قبول مسلمي صقلية لحكم قاض غير مسلم، وهي الفتوى التي ساهمت في تحويل المسلمين إلى عناصر نشيطة داخل مجتمع غير مسلم.

إدريس الكنبوري

الصحافة والهجرة

Google+ Google+